المجاهدة عظيمة النفع، كثيرة الجدوى، معينة على الإقصار عن الشر، دافعة إلى المبادرة إلى الخير، ذلك أنَّ النفوس مؤثرة للكسل والبطالة، فإذا راضها الإنسان وجاهدها في ذات الله فليبشر بالخير والإعانة والهداية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
قال ابن المبارك رحمه الله:
ومن البلايا للبلاء علامةٌ *** ألا يرى لك من هواك نزوع
العبدُ عبدُ النفس في شهواتها *** والحر يشبع تارة ويجوع
وقال الآخر:
والنفس إن أعطيتها مناها *** فاغرة نحو هواها فاها
وقال الآخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما إشتهت *** ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب
وقال أبو العباس الناشئ:
إذا المرء يحمي نفسه حِلَّ شهوةٍ *** لصحة أيام تبيد وتنفد
فما باله لا يحتمي من حرامها *** لصحة ما يبقى له ويخلد
وقيل: إنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينشد هذين البيتين:
إقدع النفس بالكفاف وإلا *** طلبت منك فوق ما يكفيها
إنما أنت طول عُمْرك ما عُمَّـ *** ـرت في الساعة التي أنت فيها
وقال الآخر:
ومن يطعم النفس ما تشتهي *** كمن يطعم النار جزل الحطب
ويقولون: إن سليمان بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك *** الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقال
ولا تعني المجاهدة أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرات، وإنّما يجاهدها في ذات الله حتى الممات، فإذا وطَّن نفسه على المجاهدة، أقبلت عليه الخيرات، وإنهالت عليه البركات.
قال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: ولو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله، والإنتهاء عن محارم الله، إلا أنه يعطف عليك فيسخّرها لك، ويطوّعها لأمرك، حتى تنقاد لك، ويسقط عنك مؤونة النزاع لها، حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند الله خبيثًا، وتُؤْثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهًا، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلًا، حتى تصير رقَّا لك بعد أن كانت تَسْتَرقُّك، وكذا كل من حقق العبودية لسيده استعبد له من كان يملكه، وألان له ما كان يعجزه.
إلى أن قال رحمه الله: ما أبرك طاعة الله على المطيع، قوم سخر لهم الرياح، والمياه، والحيوانات، وقوم أعاق عليهم الحوائج، وكسرها في صدورهم.
ولو لم يأت الإنسان من مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى إلا أن يتحرَّر من رق الهوى، وسلطان الشهوة.
رب مستور سبته شهوة *** فتعرى ستره فإنهتكا
صاحب الشهوة عبد فإذا *** غلب الشهوة أضحى ملكا
قال ابن الجوزي رحمه الله: وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلًا، لأنه قُهِر، بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزًا، لأنه قَهَر.
وقال: بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى! لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمَضَّ وأرمض.
وقال: بالله عليك تذوَّق حلاوة الكفِّ عن المنهي، فإنها شجرة تُثْمِر عزَّ الدنيا وشرف الآخرة.
ومتى إشتد عطشك إلى ما تهوى فإبسط أنامل الرجاء إلى من عنده الرِّيُّ الكامل، وقل: قَدْ عِيل صبر الطبع في سِنِيِّه العجاف، فعَجِّلْ لي العام الذي فيه أُغاث، وأعصر.
وقال رحمه الله: إخواني! إحذروا لجة هذا البحر، ولا تغتَّروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى، فالعقوبة مُرَّة، وإعلموا أن في ملازمة التقوى مراراتٍ من فقد الأغراض والمُشتهيات، غير أنَّها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة.
المصدر: موقع المحتسب.